الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله (باب الإبراد بالظهر في شدة الحر) قدم المصنف باب الإبراد على باب وقت الظهر لأن لفظ الإبراد يستلزم أن يكون بعد الزوال لا قبله، إذ وقت الإبراد هو ما إذا انحطت قوة الوهج من حر الظهيرة، فكأنه أشار إلى أول وقت الظهر. أو أشار إلى حديث جابر بن سمرة قال " كان بلال يؤذن الظهر إذا دحضت الشمس " أي مالت. الحديث: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ حَدَّثَنَا الْأَعْرَجُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَنَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ الشرح: قوله (حدثنا أيوب) هو ابن سليمان بن بلال كما في رواية أبي ذر، وأبو بكر هو ابن أبي أويس وهو من أقران أيوب، وسليمان هو ابن بلال والد أيوب، روى أيوب عنه تارة بواسطة وتارة بلا واسطة. قوله (حدثنا الأعرج عبد الرحمن وغيره) هو أبو سلمة بن عبد الرحمن فيما أظن، وقد رواه أبو نعيم في المستخرج من وجه آخر عن أيوب بن سليمان فلم يقل فيه " وغيره". والإسناد كله مدنيون. قوله (ونافع) هو بالرفع عطفا على الأعرج، وهو من رواية صالح بن كيسان عن نافع، وقد روى ابن ماجه من طريق عبد الرحمن الثقفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بعضه " أبردوا بالظهر " وروى السراج من هذا الوجه بعضه " شدة الحر من فيح جهنم". قوله (أنهما) أي أبا هريرة وابن عمر (حدثاه) أي حدثا من حدث صالح بن كيسان، ويحتمل أن يكون ضمير أنهما يعود على الأعرج ونافع، أي أن الأعرج ونافعا حدثاه أي صالح بن كيسان عن شيخيهما بذلك. ووقع في رواية الإسماعيلي " أنهما حدثا " بغير ضمير فلا يحتاج إلى التقدير المذكور. قوله (إذا اشتد) أصله اشتدد بوزن افتعل من الشدة ثم أدغمت إحدى الدالين في الأخرى، ومفهومه أن الحر إذا لم يشتد لم يشرع الإبراد، وكذا لا يشرع في البرد من باب الأولى. قوله (فأبردوا) بقطع الهمزة وكسر الراء، أي أخروا إلى أن يبرد الوقت. يقال أبرد إذا دخل في البرد كأظهر إذا دخل في الظهيرة، ومثله في المكان أنجد إذا دخل نجدا، وأتهم إذا دخل تهامة. والأمر بالإبراد أمر استحباب، وقيل أمر إرشاد، وقيل بل هو للوجوب. حكاه عياض وغيره، وغفل الكرماني فنقل الإجماع على عدم الوجوب، نعم قال جمهور أهل العلم يستحب تأخير الظهر في شدة الحر إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج، وخصه بعضهم بالجماعة، فأما المنفرد فالتعجيل في حقه أفضل، وهذا قول أكثر المالكية، والشافعي أيضا لكن خصه بالبلد الحار، وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون مسجدا من بعد، فلو كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في كن فالأفضل في حقهم التعجيل، والمشهور عن أحمد التسوية من غير تخصيص ولا قيد، وهو قول إسحاق والكوفيين وابن المنذر، واستدل له الترمذي بحديث أبي ذر الآتي بعد هذا لأن في روايته أنهم كانوا في سفر، وهي رواية للمصنف أيضا ستأتي قريبا، قال: فلو كان على ما ذهب إليه الشافعي لم يأمر بالإبراد لاجتماعهم في السفر وكانوا لا يحتاجون إلى أن ينتابوا من البعد. قال الترمذي والأول أولى للاتباع. وتعقبه الكرماني بأن العادة في العسكر الكثير تفرقتهم في أطراف المنزل للتخفيف وطلب الرعي فلا نسلم اجتماعهم في تلك الحالة. انتهى. وأيضا فلم تجر عادتهم باتخاذ خباء كبير يجمعهم، بل كانوا يتفرقون في ظلال الشجر، وليس هناك كن يمشون فيه، فليس في سياق الحديث ما يخالف ما قاله الشافعي، وغايته أنه استنبط من النص العام - وهو الأمر بالإبراد - معنى يخصصه، وذلك جائز على الأصح في الأصول، لكنه مبني على أن العلة في. ذلك تأذيهم بالحر في طريقهم، وللمتمسك بعمومه أن يقول: العلة فيه تأذيهم بحر الرمضاء في جباههم حالة السجود، ويؤيده حديث أنس " كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر " رواه أبو عوانة في صحيحه بهذا اللفظ، وأصله في مسلم، وفي حديث أنس أيضا في الصحيحين نحوه وسيأتي قريبا. والجواب عن ذلك أن العلة الأولى أظهر، فإن الإبراد لا يزيل الحر عن الأرض، وذهب بعضهم إلى أن تعجيل الظهر أفضل مطلقا. وقالوا: معنى أبردوا صلوا في أول الوقت أخذا من برد النهار وهو أوله، وهو تأويل بعيد، ويرده قوله " فإن شدة الحر من فيح جهنم " إذ التعليل بذلك يدل على أن المطلوب التأخير، وحديث أبي ذر الآتي صريح في ذلك حيث قال " انتظر..انتظر " والحامل لهم على ذلك حديث خباب " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا " أي فلم يزل شكوانا، وهو حديث صحيح رواه مسلم. وتمسكوا أيضا بالأحاديث الدالة على فضيلة أول الوقت، وبأن الصلاة حينئذ أكثر مشقة فتكون أفضل، والجواب عن حديث خباب أنه محمول على أنهم طلبوا تأخيرا زائدا عن وقت الإبراد وهو زوال حر الرمضاء، وذلك قد يستلزم خروج الوقت، فلذلك لم يجبهم، أو هو منسوخ بأحاديث الإبراد فإنها متأخرة عنه، واستدل له الطحاوي بحديث المغيرة بن شعبة قال " كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالهاجرة، ثم قال لنا أبردوا بالصلاة " الحديث، وهو حديث رجاله ثقات رواه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان. ونقل الخلال عن أحمد أنه قال: هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجمع بعضهم بين الحديثين بأن الإبراد رخصة والتعجيل أفضل، وهو قول من قال إنه أمر إرشاد، وعكسه بعضهم فقال: الإبراد أفضل. وحديث خباب يدل على الجواز وهو الصارف للأمر عن الوجوب. كذا قيل وفيه نظر، لأن ظاهره المنع من التأخير. وقيل معنى قول خباب " فلم يشكنا " أي فلم يحوجنا إلى شكوى بل أذن لنا في الإبراد، حكي عن ثعلب، ويرده أن في الخبر زيادة رواها ابن المنذر بعد قوله " فلم يشكنا " وقال " إذا زالت الشمس فصلوا " وأحسن الأجوبة كما قال المازري الأول، والجواب عن أحاديث أول الوقت أنها عامة أو مطلقة، والأمر بالإبراد خاص فهو مقدم، ولا التفات إلى من قال التعجيل أكثر مشقة فيكون أفضل، لأن الأفضلية لم تنحصر في الأشق، بل قد يكون الأخف أفضل كما في قصر الصلاة في السفر. قوله (بالصلاة) كذا للأكثر، والباء للتعدية، وقيل زائدة. ومعنى أبردوا أخروا على سبيل التضمين أي أخروا الصلاة. وفي رواية الكشميهني " عن الصلاة " فقيل زائدة أيضا أو عن بمعنى الباء، أو هي للمجاوزة أي تجاوزوا وقتها المعتاد إلى أن تنكسر شدة الحر، والمراد بالصلاة الظهر لأنها الصلاة التي يشتد الحر غالبا في أول وقتها، وقد جاء صريحا في حديث أبي سعيد كما سيأتي آخر الباب، فلهذا حمل المصنف في الترجمة المطلق على المقيد والله أعلم. وقد حمل بعضهم الصلاة على عمومها بناء على أن المفرد المعرف يعم، فقال به أشهب في العصر. وقال به أحمد في رواية عنه في الشتاء حيث قال: تؤخر في الصيف دون الشتاء، ولم يقل أحد به في المغرب ولا في الصبح لضيق وقتهما. قوله (فإن شدة الحر) تعليل لمشروعية التأخير المذكور، وهل الحكمة فيه دفع المشقة لكونها قد تسلب الخشوع؟ وهذا أظهر، أو كونها الحالة التي ينتشر فيها العذاب؟ ويؤيده حديث عمرو بن عبسة عند مسلم حيث قال له " أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس فإنها ساعة تسجر فيها جهنم " وقد استشكل هذا بأن الصلاة سبب الرحمة ففعلها مظنة لطرد العذاب. فكيف أمر بتركها؟ وأجاب عنه أبو الفتح اليعمري بأن التعليل إذا جاء من جهة الشارع وجب قبوله وإن لم يفهم معناه، واستنبط له الزين بن المنير معنى يناسبه فقال: وقت ظهور أثر الغضب لا ينجع فيه الطلب إلا ممن أذن له فيه، والصلاة لا تنفك عن كونها طلبا ودعاء فناسب الاقتصار عنها حينئذ. واستدل بحديث الشفاعة حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم بأن الله تعالى غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، سوى نبينا صلى الله عليه وسلم فلم يعتذر بل طلب لكونه أذن له في ذلك. ويمكن أن يقال سجر جهنم سبب فيحها وفيحها سبب وجود شدة الحر وهو مظنة المشقة التي هي مظنة سلب الخشوع فناسب أن لا يصلي فيها. لكن يرد عليه أن سجرها مستمر في جميع السنة والإبراد مختص بشدة الحر فهما متغايران، فحكمة الإبراد دفع المشقة، وحكمة الترك وقت سجرها لكونه وقت ظهور أثر الغضب والله أعلم. قوله (من فيح جهنم) أي من سعة انتشارها وتنفسها، ومنه مكان أفيح أي متسع، وهذا كناية عن شدة استعارها، وظاهره أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة، وقيل هو من مجاز التشبيه، أي كأنه نار جهنم في الحر، والأول أولى. ويؤيده الحديث الآتي: " اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين " وسيأتي البحث فيه. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُهَاجِرِ أَبِي الْحَسَنِ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ فَقَالَ أَبْرِدْ أَبْرِدْ أَوْ قَالَ انْتَظِرْ انْتَظِرْ وَقَالَ شِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ الشرح: قوله (عن المهاجر أبي الحسن) المهاجر اسم وليس بوصف والألف واللام فيه للمح الصفة كما في العباس، وسيأتي في الباب الذي بعده بغير ألف ولام. قوله (عن أبي ذر) في رواية المصنف في صفة النار من طريق أخرى عن شعبة بهذا الإسناد " سمعت أبا ذر". قوله (أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم) هو بلال كما سيأتي قريبا. قوله (الظهر) بالنصب، أي أذن وقت الظهر، ورواه الإسماعيلي بلفظ " أراد أن يؤذن بالظهر " وسيأتي بلفظ للظهر وهما واضحان. قوله (فقال أبرد) ظاهره أن الأمر بالإبراد وقع بعد تقدم الأذان منه، وسيأتي في الباب الذي بعده بلفظ فأراد أن يؤذن للظهر، وظاهره أن ذلك وقع قبل الأذان فيجمع بينهما على أنه شرع في الأذان فقيل له أبرد فترك، فمعنى أذن: شرع في الأذان، ومعنى أراد أن يؤذن: أي يتم الأذان، والله أعلم. قوله (حتى رأينا فيء التلول) كذا وقع هنا مؤخرا عن قوله " شدة الحر الخ"، وفي غير هذه الرواية وقع ذلك عقب قوله " أبردوا " وهو أوضح في السياق لأن الغاية متعلقة بالإبراد، وسيأتي في الباب الذي بعده بقية مباحثه إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ وَاشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ الشرح: قوله (حفظناه من الزهري) في رواية الإسماعيلي عن جعفر الفريابي عن علي بن المديني شيخ المصنف فيه بلفظ " حدثنا الزهري". قوله (عن سعيد بن المسيب) كذا رواه أكثر أصحاب سفيان عنه، ورواه أبو العباس السراج عن أبي قدامة عن سفيان عن الزهري عن سعيد أو أبي سلمة أحدهما أو كلاهما، ورواه أيضا من طريق شعيب ابن أبي حمزة عن الزهري عن سلمة وحده، والطريقان محفوظان، فقد رواه الليث وعمرو بن الحارث عند مسلم، ومعمر وابن جريج عند أحمد، وابن أخي الزهري وأسامة بن زيد عند السراج، ستتهم عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة. قوله (واشتكت النار) في رواية الإسماعيلي " قال واشتكت النار " وفاعل قال هو النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالإسناد المذكور قبل، ووهم من جعله موقوفا أو معلقا. وقد أفرده أحمد في مسنده عن سفيان، وكذلك السراج من طريق سفيان وغيره، وقد اختلف في هذه الشكوى هل هي بلسان المقال أو بلسان الحال؟ واختار كلا طائفة. وقال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر، والأول أرجح. وقال عياض: إنه الأظهر. وقال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته. قال: وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله فحمله على حقيقته أولى. وقال النووي نحو ذلك ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب. وقال نحو ذلك التوربشتي، ورجح البيضاوي حمله على المجاز فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضا مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها. وقال الزين بن المنير: المختار حمله على الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك، ولأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت، لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن والقبول والتنفس وقصره على اثنين فقط بعيد من المجاز خارج عما ألف من استعماله. قوله (بنفسين) بفتح الفاء، والنفس معروف وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء. قوله (نفس في الشتاء ونفس في الصيف) بالجر فيهما على البدل أو البيان، ويجوز الرفع والنصب. قوله (أشد) يجوز الكسر فيه على البدل، لكنه في روايتنا بالرفع. قال البيضاوي: هو خبر مبتدأ محذوف تقديره فذلك أشد. وقال الطيبي: جعل أشد مبتدأ محذوف الخبر أولى، والتقدير أشد ما تجدون من الحر من ذلك النفس. قلت: يؤيد الأول رواية الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ فهو أشد، ويؤيد الثاني رواية النسائي من وجه آخر بلفظ فأشد ما تجدون من الحر من حر جهنم، وفي سياق المصنف لف ونشر غير مرتب، وهو مرتب في رواية النسائي. والمراد بالزمهرير شدة البرد، واستشكل وجوده في النار، ولا إشكال لأن المراد بالنار محلها وفيها طبقة زمهريرية: وفي الحديث رد على من زعم من المعتزلة وغيرهم أن النار لا تخلق إلا يوم القيامة. (تنبيهان) الأول: قضية التعليل المذكور قد يتوهم منها مشروعية تأخير الصلاة في وقت شدة البرد، ولم يقل به أحد، لأنها تكون غالبا في وقت الصبح فلا تزول إلا بطلوع الشمس، فلو أخرت لخرج الوقت. الثاني: النفس المذكور ينشأ عنه أشد الحر في الصيف، وإنما لم يقتصر في الأمر بالإبراد على أشده لوجود المشقة عند شديده أيضا، فالأشدية تحصل عند التنفس، والشدة مستمرة بعد ذلك فيستمر الإبراد إلى أن تذهب الشدة، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ تَابَعَهُ سُفْيَانُ وَيَحْيَى وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ الشرح: قوله (بالظهر) قد يحتج به على مشروعية الإبراد للجمعة. وقال به بعض الشافعية، وهو مقتضى صنيع المصنف كما سيأتي في بابه، لكن الجمهور على خلافه كما سيأتي توجيهه إن شاء الله تعالى. قوله (تابعه سفيان) هو الثوري. قد وصله المؤلف في صفة النار من بدء الخلق ولفظه " بالصلاة " ولم أره من طريق سفيان بلفظ " بالظهر " وفي إسناده اختلاف على الثوري رواه عبد الرزاق عنه بهذا الإسناد فقال " عن أبي هريرة " بدل أبي سعيد أخرجه أحمد عنه، والجوزقي من طريق عبد الرزاق أيضا، ثم روى عن الذهلي قال: هذا الحديث رواه أصحاب الأعمش عنه عن أبي صالح عن أبي سعيد، وهذه الطريق أشهر. ورواه زائدة وهو متقن عنه، فقال: عن أبي هريرة، قال: والطريقان عندي محفوظان، لأن الثوري رواه عن الأعمش بالوجهين. قوله (ويحيى) هو ابن سعيد القطان. وقد وصله أحمد عنه بلفظ " بالصلاة " ورواه الإسماعيلي عن أبي يعلى عن المقدمي عن يحيى بلفظ " بالظهر". قوله (وأبو عوانة) لم أقف على من وصله عنه، وقد أخرجه السراج من طريق محمد بن عبيد، والبيهقي من طريق وكيع، كلاهما عن الأعمش أيضا بلفظ " بالظهر". (فائدة) : رتب المصنف أحاديث هذا الباب ترتيبا حسنا، فبدأ بالحديث المطلق، وثنى بالحديث الذي فيه الإرشاد إلى غاية الوقت التي ينتهي إليها الإبراد وهو ظهور فيء التلول، وثلث بالحديث الذي فيه بيان العلة في كون ذلك المطلق محمولا على المقيد، وربع بالحديث المفصح بالتقييد. والله الموفق. *3* الشرح: قوله (باب الإبراد بالظهر في السفر) أراد بهذه الترجمة أن الإبراد لا يختص بالحضر، لكن محل ذلك ما إذا كان المسافر نازلا، أما إذا كان سائرا أو على سير ففيه جمع التقديم أو التأخير كما سيأتي في بابه. وأورد فيه حديث أبي ذر الماضي مقيدا بالسفر، مشيرا به إلى أن تلك الرواية المطلقة محمولة على هذه المقيدة. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا مُهَاجِرٌ أَبُو الْحَسَنِ مَوْلَى لِبَنِي تَيْمِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْرِدْ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ أَبْرِدْ حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَتَفَيَّأُ تَتَمَيَّلُ الشرح: قوله (فأراد المؤذن) في رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن شبابة، ومسدد عن أمية بن خالد، والترمذي من طريق أبي داود الطيالسي وأبي عوانة من طريق حفص بن عمر، ووهب بن جرير والطحاوي والجوزقي من طريق وهب أيضا، كلهم عن شعبة التصريح بأنه بلال. قوله (ثم أراد أن يؤذن فقال له أبرد) زاد أبو داود في روايته عن أبي الوليد عن شعبة " مرتين أو ثلاثا " وجزم مسلم بن إبراهيم عن شعبة بذكر الثالثة، وهو عند المصنف في " باب الأذان للمسافرين " فإن قيل: الإبراد للصلاة فكيف أمر المؤذن به للأذان؟ فالجواب أن ذلك مبني على أن الأذان هل هو للوقت أو للصلاة؟ وفيه خلاف مشهور، والأمر المذكور يقوي القول بأنه للصلاة. وأجاب الكرماني بأن عادتهم جرت بأنهم لا يتخلفون عند سماع الأذان عن الحضور إلى الجماعة، فالإبراد بالأذان لغرض الإبراد بالعبادة، قال: ويحتمل أن المراد بالتأذن هنا الإقامة. قلت: ويشهد له رواية الترمذي من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة بلفظ " فأراد بلال أن يقيم " لكن رواه أبو عوانة من طريق حفص بن عمر عن شعبة بلفظ " فأراد بلال أن يؤذن " وفيه " ثم أمره فأذن وأقام " ويجمع بينهما بأن إقامته كانت لا تتخلف عن الأذان لمحافظته صلى الله عليه وسلم على الصلاة في أول الوقت، فرواية " فأراد بلال أن يقيم " أي أن يؤذن ثم يقيم، ورواية " فأراد أن يؤذن " أي ثم يقيم. قوله (حتى رأينا فيء التلول) هذه الغاية متعلقة بقوله " فقال له أبرد " أي كان يقول له في الزمان الذي قبل الرؤية أبرد، أو متعلقة بأبرد أي قال له أبرد إلى أن ترى، أو متعلقة بمقدر أي قال له أبرد فأبرد إلى أن رأينا، والفيء بفتح الفاء وسكون الياء بعدها همزة هو ما بعد الزوال من الظل، والتلول جمع تل بفتح المثناة وتشديد اللام: كل ما اجتمع على الأرض من تراب أو رمل أو نحو ذلك، وهي في الغالب منبطحة غير شاخصة فلا يظهر لها ظل إلا إذا ذهب أكثر وقت الظهر، وقد اختلف العلماء في غاية الإبراد، فقيل: حتى يصير الظل ذراعا بعد ظل الزوال، وقيل ربع قامة، وقيل ثلثها، وقيل نصفها، وقيل غير ذلك. ونزلها المازري على اختلاف الأوقات، والجاري على القواعد أنه يختلف باختلاف الأحوال، لكن يشترط أن لا يمتد إلى آخر الوقت، وأما ما وقع عند المصنف في الأذان عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ " حتى ساوى الظل التلول " فظاهره يقتضي أنه أخرها إلى أن صار ظل كل شيء مثله، ويحتمل أن يراد بهذه المساواة ظهور الظل بجنب التل بعد أن لم يكن ظاهرا فساواه في الظهور لا في المقدار، أو يقال: قد كان ذلك في السفر فلعله أخر الظهر حتى يجمعها مع العصر. قوله (وقال ابن عباس: يتفيأ: يتميل) أي قال في تفسير قوله تعالى (يتفيأ ظلاله) معناه يتميل، كأنه أراد أن الفيء سمي بذلك لأنه ظل مائل من جهة إلى أخرى، وتتفيأ في روايتنا بالمثناة الفوقانية أي الظلال، وقرئ أيضا بالتحتانية، أي الشيء، والقراءتان شهيرتان. وهذا التعليق في رواية المستملي وكريمة، وقد وصله ابن أبي حاتم في تفسيره. *3* وَقَالَ جَابِرٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالْهَاجِرَةِ الشرح: قوله (باب) بالتنوين (وقت الظهر) أي ابتداؤه (عند الزوال) أي زوال الشمس، وهو ميلها إلى جهة المغرب. وأشار بهذه الترجمة إلى الرد على من زعم من الكوفيين أن الصلاة لا تجب بأول الوقت كما سيأتي. ونقل ابن بطال أن الفقهاء بأسرهم على خلاف ما نقل عن الكرخي عن أبي حنيفة أن الصلاة في أول الوقت تقع نفلا، انتهى. والمعروف عند الحنفية تضعيف هذا القول. ونقل بعضهم أن أول الظهر إذا صار الفيء قدر الشراك. قوله (وقال جابر) هو طرف من حديث وصله المصنف في " باب وقت المغرب " بلفظ " كان يصلي الظهر بالهاجرة " والهاجرة اشتداد الحر في نصف النهار، قيل سميت بذلك من الهجر وهو الترك لأن الناس يتركون التصرف حينئذ لشدة الحر ويقيلون. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ فَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ فَلَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ وَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ فَقَالَ مَنْ أَبِي قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ فَلَمْ أَرَ كَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ الشرح: حديث أنس تقدم في العلم في " باب من برك على ركبتيه " بهذا الإسناد لكن باختصار، وسيأتي الكلام على فوائده مستوعبا إن شاء الله تعالى في كتاب الاعتصام. قوله (زاغت) أي مالت، وقد رواه الترمذي بلفظ " زالت " والغرض منه هنا صدر الحديث وهو قوله " خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر " فإنه يقتضي أن زوال الشمس أول وقت الظهر، إذ لم ينقل أنه صلى قبله، وهذا هو الذي استقر عليه الإجماع، وكان فيه خلاف قديم عن بعض الصحابة أنه جوز صلاة الظهر قبل الزوال. وعن أحمد وإسحاق مثله في الجمعة كما سيأتي في بابه. قوله (في عرض هذا الحائط) بضم العين، أي جانبه أو وسطه. قوله (فلم أر كالخير والشر) أي المرئي في ذلك المقام. الحديث: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصُّبْحَ وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ وَيَقْرَأُ فِيهَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ وَيُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَالْعَصْرَ وَأَحَدُنَا يَذْهَبُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجَعَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ وَلَا يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ وَقَالَ مُعَاذٌ قَالَ شُعْبَةُ لَقِيتُهُ مَرَّةً فَقَالَ أَوْ ثُلُثِ اللَّيْلِ الشرح: قوله (عن أبي المنهال) في رواية الكشميهني " حدثنا أبو المنهال " وهو سيار بن سلامة الآتي ذكره في " باب وقت العصر " من رواية عوف عنه. قوله (يعرف جليسه) أي الذي بجنبه، ففي رواية الجوزقي من طريق وهب بن جرير عن شعبة " فينظر الرجل إلى جليسه إلى جنبه فيعرف وجهه " ولأحمد " فينصرف الرجل فيعرف وجه جليسه " وفي رواية لمسلم " فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه". وله في أخرى " وننصرف حين يعرف بعضنا وجه بعض". قوله (والعصر) بالنصب أي ويصلي العصر. قوله (وأحدنا يذهب إلى أقصى المدينة رجع والشمس حية) كذا وقع هنا في رواية أبي ذر والأصيلي. وفي رواية غيرهما " ويرجع " بزيادة واو وبصيغة المضارعة عليها شرح الخطابي، وظاهره حصول الذهاب إلى أقصى المدينة والرجوع من ثم إلى المسجد، لكن في رواية عوف الآتية قريبا " ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية " فليس فيه إلا الذهاب فقط دون الرجوع، وطريق الجمع بينها وبين رواية الباب أن يقال: يحتمل أن الواو في قوله " وأحدنا " بمعنى " ثم " على قول من قال إنها ترد للترتيب مثل ثم، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير ثم يذهب أحدنا أي ممن صلى معه. وأما قوله " رجع " فيحتمل أن يكون بمعنى يرجع ويكون بيانا لقوله يذهب، ويحتمل أن يكون رجع في موضع الحال أي يذهب راجعا، ويحتمل أن أداة الشرط سقطت إما لو أو إذا، والتقدير ولو يذهب أحدنا الخ، وجوز الكرماني أن يكون رجع خبرا للمبتدأ الذي هو أحدنا ويذهب جملة حالية، وهو وإن كان محتملا من جهة اللفظ لكنه يغاير رواية عوف، وقد رواه أحمد عن حجاج بن محمد عن شعبة بلفظ " والعصر يرجع الرجل إلى أقصى المدينة والشمس حية " ولمسلم والنسائي من طريق خالد بن الحارث عن شعبة مثله لكن بلفظ " يذهب " بدل يرجع. وقال الكرماني أيضا بعد أن حكى احتمالا آخر وهو أي قوله رجع عطف على يذهب والواو مقدرة ورجع بمعنى يرجع. انتهى. وهذا الاحتمال الأخير جزم به ابن بطال، وهو موافق للرواية التي حكيناها. ويؤيد ذلك رواية أبي داود عن حفص بن عمر شيخ المصنف فيه بلفظ " وإن أحدنا ليذهب إلى أقصى المدينة ويرجع والشمس حية " وقد قدمنا ما يرد عليها وأن رواية عوف أوضحت أن المراد بالرجوع الذهاب أي من المسجد، وإنما سمي رجوعا لأن ابتداء المجيء كان من المنزل إلى المسجد فكان الذهاب منه إلى المنزل رجوعا، وسيأتي الكلام على بقية مباحث هذا الحديث في " باب وقت العصر " قريبا. قوله (وقال معاذ) هو ابن معاذ البصري (عن شعبة) أي بإسناده المذكور. وهذا التعليق وصله مسلم عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه به، والإسناد كله بصريون، وكذا الذي قبله. وجزم حماد بن سلمة عن أبي المنهال عند مسلم بقوله " إلى ثلث الليل " وكذا لأحمد عن حجاج عن شعبة. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنِي غَالِبٌ الْقَطَّانُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالظَّهَائِرِ فَسَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الْحَرِّ الشرح: قوله (حدثنا محمد) كذا للأصيلي وغيره، ولأبي ذر " ابن مقاتل". قوله (أخبرنا عبد الله) هو ابن المبارك. قوله (أخبرنا خالد بن عبد الرحمن) كدا وقع هنا مهملا، وهو السلمي واسم جده بكير، وثبت الأمران في مستخرج الإسماعيلي، وليس له عند البخاري غير هذا الحديث الواحد، وفي طبقته خالد بن عبد الرحمن الخراساني نزيل دمشق وخالد بن عبد الرحمن الكوفي العبدي ولم يخرج لهما البخاري شيئا. قوله (بالظهائر) جمع ظهيرة وهي الهاجرة، والمراد صلاة الظهر. قوله (سجدنا على ثيابنا) كذا في رواية أبي ذر والأكثرين. وفي رواية كريمة " فسجدنا " بزيادة فاء وهي عاطفة على شيء مقدر. قوله (اتقاء الحر) أي للوقاية من الحر، وقد روى هذا الحديث بشر بن المفضل عن غالب كما مضى، ولفظه مغاير للفظه، لكن المعنى متقارب، وقد تقدم الكلام عليه في " باب السجود على الثوب في شدة الحر " وفيه الجواب عن استدلال من استدل به على جواز السجود على الثوب ولو كان يتحرك بحركته، وفيه المبادرة لصلاة الظهر ولو كان في شدة الحر. ولا يخالف ذلك الأمر بالإبراد، بل هو لبيان الجواز وإن كان الإبراد أفضل، والله أعلم. *3* الشرح: قوله (باب تأخير الظهر إلى العصر) أي إلى أول وقت العصر. والمراد أنه عند فراغه منها دخل وقت صلاة العصر كما سيأتي عن أبي الشعثاء راوي الحديث. وقال الزين بن المنير: أشار البخاري إلى إثبات القول باشتراك الوقتين، لكن لم يصرح بذلك على عادته في الأمور المحتملة لأن لفظ الحديث يحتمل ذلك ويحتمل غيره، قال: والترجمة مشعرة بانتفاء الفاصلة بين الوقتين، وقد نقل ابن بطال عن الشافعي وتبعه غيره فقالوا: قال الشافعي بين وقت الظهر وبين وقت العصر فاصلة لا تكون وقتا للظهر ولا للعصر ا ه. ولا يعرف ذلك في كتب المذهب عن الشافعي، وإنما المنقول عنه أنه كان يذهب إلى أن آخر وقت الظهر ينفصل من أول وقت العصر، ومراده نفي القول بالاشتراك. ويدل عليه أنه احتج بقول ابن عباس " وقت الظهر إلى العصر والعصر إلى المغرب " فكما أنه لا اشتراك بين العصر والمغرب فكذلك لا اشتراك بين الظهر والعصر. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فَقَالَ أَيُّوبُ لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ قَالَ عَسَى الشرح: قوله (عن جابر بن زيد) هو أبو الشعثاء، والإسناد كله بصريون. قوله (سبعا وثمانيا) أي سبعا جميعا وثمانيا جميعا كما صرح به في " باب وقت المغرب " من طريق شعبة عن عمرو بن دينار. قوله (فقال أيوب) هو السختياني، والمقول له هو أبو الشعثاء. قوله (عسى) أي أن يكون كما قلت، واحتمال المطر قال به أيضا مالك عقب إخراجه لهذا الحديث عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه. وقال بدل قوله بالمدينة " من غير خوف ولا سفر " قال مالك: لعله كان في مطر، لكن رواه مسلم وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير بلفظ " من غير خوف ولا مطر " فانتفى أن يكون الجمع المذكور للخوف أو السفر أو المطر، وجوز بعض العلماء أن يكون الجمع المذكور للمرض، وقواه النووي، وفيه نظر، لأنه لو كان جمعه صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين لعارض المرض لما صلى معه إلا من به نحو ذلك العذر، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه، وقد صرح بذلك ابن عباس في روايته، قال النووي: ومنهم من تأوله على أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم مثلا فبان أن وقت العصر دخل فصلاها، قال وهو باطل لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء ا هـ. وكأن نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، والمختار عنده خلافه، وهو أن وقتها يمتد إلى العشاء، فعلى هذا فالاحتمال قائم. قال: ومنهم من تأوله على أن الجمع المذكور صوري، بأن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها وعجل العصر في أول وقتها. قال: وهو احتمال ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل ا هـ. وهذا الذي ضعفه استحسنه القرطبي ورجحه قبله إمام الحرمين وجزم به من القدماء ابن الماجشون والطحاوي وقواه ابن سيد الناس بأن أبا الشعثاء وهو راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به، وذلك فيما رواه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار، فذكر هذا الحديث وزاد: قلت يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظنه. قال ابن سيد الناس: وراوي الحديث أدري بالمراد من غيره. قلت: لكن لم يجزم بذلك، بل لم يستمر عليه، فقد تقدم كلامه لأيوب وتجويزه لأن يكون الجمع بعذر المطر، لكن يقوي ما ذكره من الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها تعرض لوقت الجمع. فإما أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراح الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث، والجمع الصوري أولى والله أعلم صلى الله عليه وسلم. وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقا لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة، وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث، واستدل لهم بما وقع عند مسلم في هذا الحديث من طريق سعيد بن جبير قال: فقلت لابن عباس لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته. وللنسائي من طريق عمرو ابن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء، فعل ذلك من شغل، وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لمسلم من طريق عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس المذكور كان بالخطبة وأنه خطب بعد صلاة العصر إلى أن بدت النجوم، ثم جمع بين المغرب والعشاء. وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه. وما ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع، وقد جاء مثله عن ابن مسعود مرفوعا أخرجه الطبراني ولفظه " جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، فقيل له في ذلك فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمتي " وإرادة نفي الحرج يقدح في حمله على الجمع الصوري، لأن القصد إليه لا يخلو عن حرج.
|